لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: أنياب زرقاء

أنياب زرقاء
د. يوسف حطيني



توارت جدران مخيم خلف القضبان، وتوارى برميل خلف أحد هذه الجدران، بينما توارى أب خلف البرميل، وخلف الأب تماماً توارى طفل بعمر الزهور.. طلقات حاقدة اخترقت القضبان والمخيم والجدار والبرميل، وكف الأب الحانية، والطفل والزهور، وكتبت بدم قان: هنا مخيم البريج.
قال ميثاق حقوق الإنسان:
من حق الطفل أن يعيش.
قال الطالب ذو الاثني عشر ربيعاً، وهو يقرأ موضوعاً في التعبير الحر:
كنت أحلم عندما كنت صغيراً (!!) أن أكون في المستقبل مهندساً أو طبيباً، وعندما رأيت ذلك المنظر الذي حفر في ذاكرتي أخدوداً عميقاً، اكتشفت أن أحلامي كانت سخيفة. يجب أن أكون طياراً حربياً.
قال الجندي: لن تستطيع يداك الواهنتان أيها الأعزل عن أن تكونا متراساً يحمي طفلك من رصاصنا الذي لا يقهر.
قال الأب: مات الولد.
قالت الذاكرة:
خرجت الفيتنامية كيم فوك من منزلها عارية، بعد أن أصيبت بحروق في جلدها نتيجة لإلقاء المقاتلات الأميركية قنابل النابالم على قريتها.
قال الشاعر الذي لم يعش عرس الدم:
سأكسر قلمي.
قال الشهيد:
"آه يا خمسون لحناً دموياً
كيف صارت بركة الدم نجوماً وشجر


الذي مات هو القاتل يا قيثارتي
ومغنيك انتصر" (*)
* * *
خرج طلال أبو رحمة في صباح ذلك اليوم، وهو يعلق آلة التصوير على كتفه، واتجه نحو مخيم البريج، ولا يزال الحديث الذي دار بينه وبين أمه الليلة الماضية ينخز رأسه:
- أخجل من هذه الكاميرا. ماذا لو أنني استبدلت بها أحجاراً وزجاجات حارقة.
- حماك الله يا بني أنت تقوم بعمل عظيم.
- أخجل من الصغار يا أماه.
- نم يا بني.. الله يرضى عليك.. بكرة الصبح لازم تفيق بكير، عندك مشوار على مخيم البريج.
وعلى الرغم من أنه لم ينم تقريباً، فها هو ذا في طريقه إلى المخيم، تملأ رئتيه رائحة قدسية تعطر الهواء، يقرأ قرارات توصل إليها الناس هناك دون الحاجة إلى اجتماعاتٍ مطولة. قراراتٌ سريعةٌ حاسمةٌ واضحة، لا تحتاج إلا إلى رجل وعلبة بخ وجدار.
هذا الصباح بدأت المواجهات مبكرة، واشتعل القطاع مثلما اشتعلت القدس وطولكرم، ومثلما اشتعل الجليل. راح يتأمل جداراً ملأته شعارات وقرارات حاسمة:
دم الشهداء لن يذهب هدراً.
القدس عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة.
المجد للانتفاضة.
صور الرعب تتوالى، ومحطة فرانس/2 تنتظر مزيداً من التقارير، وهو يحاول أن يمتشق صورة بحجم الدم الذي يراق على الأرض المباركة. قال في نفسه: هؤلاء المجرمون يقتلون شعبنا بعيداً عن الكاميرا، يجب أن أفعل شيئاً، يركض طلال من مكان إلى آخر، بين الرصاص الكثيف، كأنه يركض بين قطرات مطر غزير، يختار مكاناً مناسباً يثبت فيه آلة التصوير، بينما تتسع دائرة المواجهات لتشمل كل شارع وحارة، وفجأة قفزت إلى رأسه المليء بضجيج الرصاص أغنية هادئة:
"سنرجع خبرني العندليب.. غداة التقينا على منحنى."


ربما كان لذلك الطفل القادم من طرف الساحة، وهو يحتمي بأبيه، أثرٌ في تذكر تلك الأغنية بالذات، يركض الأب والطفل، يصلان إلى جدار كُتب عليه قرار حاسم سريع:
"ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة."
يختبئان خلف البرميل، فيما ينهمر الرصاص عليهما كالمطر، والأب العاجز عن حماية ابنه، يذبّ الموت والرصاص عن ذلك الجسد الصغير، وآلة التصوير ترتجف بين يدي طلال كديك مذبوح.
قالت الرصاصة الحاقدة: يدك أضعف من أن تصلح متراساً.
قال الأب: مات الولد.
قالت صحيفة سوديتتشيتز ايتونغ الألمانية: فيلم رعب قصير.
قال الجميع، وطلال أبو رحمة لم يستطع أن يقول شيئاً، ولكن الصورة التي التقطها قالت كل شيء، حتى إن أحد الإعلاميين الذين شاهدوا العرض المرعب بدم بارد، هنأ طلال على هذا السبق الصحفي، لم يكن يفكر بالسبق الصحفي، ولا بـ "فرانس/2"، كان ثمة أمر واحد يؤرقه: بم يشعر أب حين يكتشف أنه عاجز عن حماية طفله الذي يلجأ إلى حضنه.
حين انتقل الموت إلى شارع آخر، كانت عيناه كحبتين من الخوخ الأحمر، أخلي الشهيد ووالده المفجوع من أمام الجدار، واكتشف المصور أمراً أسعده كثيراً، فعلى الرغم من طزاجة الدم، اكتشف أن كل الرصاصات كانت عاجزة عن أن تمحو حرفاً واحداً من ذلك القرار الحاسم الذي اتخذه شاب عجول، في ليلة ما: "ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة".
كانت أمه تبكي بكاءً حاراً عندما حكى لها عن التفاصيل، دون أن تسأله، حين حكى للجميع الذين كانوا قد رأوا الصورة ذاتها، ولكن أحداً لم يشأ أن يقاطع شلال الكلام والدم الذي يتدفق كلمات على شفتيه:
"الكلام مش متل الشوف، والصورة مش متل الحقيقة"
* * *
الكوابيس تتوالى على نومه المتعب، يرى رجالاً بأنياب زرقاء، وحوشاً، وديناصورات مرعبة تلتهم البشر والشجر، وفجأة يخترق طفل بعمر الزهور جميع الصفوف، وينشد أنشودته التي تنزل برداً وسلاماً على قلب طلال:
"آه يا خمسون لحناً دموياً
كيف صارت بركة الدم نجوماً وشجر
الذي مات هو القاتل يا قيثارتي
ومغنيك انتصر".

7/10/2000


(*) هذا المقطع الذي تنبعث منه رائحة المذابح للشاعر محمود درويش.