ديلوكس 2000
… إلى الذين يرفضون أن يحتلّ العَلَم
المخطط بالأحمر والأبيض سماء العالم..
د. يوسف حطيني
ها قد غدوتِ وحيدة للمرة الأولى منذ انتقلت إلى هذا البيت الجديد: شقّة واسعة يسرح فيها الخيال، كما كانت تقول جدتك، أضواؤها زاهية مثل سماء أضيئت على غير انتظار، يسقط طلاؤها الأزرق على العين مباشرة، تمشين فيها.. لا تبدد فزعَك الأبوابُ الإيطالية، ولا ديكورات الجبصين.
"شقة ديلوكس" كما وصفها السيد بيل، قدّس الله سرّه، تقع وسط مجمّع سياحيّ كبير، أطلق عليه اسم "ديلوكس 2000" تيمّناً بالقادم الجديد، تخافين من السنة الجديدة.. يرعبك منظرك في الحمّام ذي البورسلان الأزرق، لا يؤنسك عريك، ولا صورته المرتسمة أمامك في المرآة الطويلة التي تخبرك دون استحياء أن شعرات رأسك البيضاء آخذة في الازدياد.
تنظرين إلى الساعة المصلوبة على الجدار، وأنت تنشفين جسدك: خمس وثلاثون دقيقة مرّت حتى الآن، وأنت تتحدّين وحدتك، وشرنقتك الجديدة.. حين تأخّر ولدكما ربّت على كتفك للمرّة الرابعة، وانطلق قائلاً إنه لن يتأخر… خمس دقائق وسيعودان معاً..
ولكنهما لـم يعودا.. أبديت خشيتك على الصغير ، قلت له: إنه ما زال صغيراً على البحث عن بقالية في حي غريب، ولكنه أرسله، وها هو ذا يكتشف صواب خوفكِ، ويتركك وحيدة في مواجهة تلفزيون 28 بوصة، لا يعرف كيف يؤنس وحشتك.
خمس دقائق وسيعودان معاً..
تحمدين الله أن صديقتك ناديا تقيم في الطابق الثاني .. تحت شقتك مباشرة، هكذا أخبركِ زوجكِ الليلة الماضية مبشّراً، مبدّداً بذلك جزءاً من غربة طويلة قاسية، أدمنَتْ روحكِ منذ ثلاثة أيام..ربما تصعد ناديا الآن، تقرع هذا الجرس ذا الأنغام المتعددة.. ربما تحكي لك عن الجيران.. والعادات التي يفرضها المجتمع الجديد الذي انتميتِ إليه رغماً عنك، تاركة بيتك القديم: ثلاثون متراً مربعاً استطاع زوجكِ أن يجترح معجزة حين قسمها إلى غرفة للنوم،ومطبخ، وحمّام، وشرفة للغسيل. كلّ ما حولك كان ضيقاً إلا قلبَه، تحتارين أين ستضعين الغسالة الصغيرة، والطاولة، والصحون البلاستيكية التي تملئينها بالزيتون والزعتر والجبن وقطع البندورة، كلّ ما حولكِ كان يشعركِ بالأمان، ويقودك نحو الأحلام الوردية العذبة.
* * *
قبل ثلاثة أيام بالتمام والكمال، عاد زوجكِ إلى البيت، بصق جملته باختصار:
ـ سنرحل.
ـ إلى أين؟
ـ إلى عالم لـم تكوني تحلمين بمثله، إلى بيت جديد.
ـ متى؟
ـ الآن.
انهمرت دموعك، فأنت لا تستطيعين أن تنصرفي دون أن تخبري أحداً، دون أن تودّعي الأهل والجيران، دون أن تلمسي زوايا بيتك، ربما للمرّة الأخيرة، دون أن تقرئي للمرة الأخيرة خربشات طفلك الوحيد.. خربشات عمرك على الجدران. غير أنه كان جادّاً، وجهه لا يحمل أي أثر للمزاح، طلبتِ منه مهلة قصيرة لترتيب الأغراض.. الأثاث.. المشاعر المرتبكة.. ولكنه أكّد بثقة أنه لن ينقل شيئاً:
ـ لدينا أثاث جديد في المنزل الجديد.
* * *
لم تكوني ذكية بما فيه الكفاية، لـم تكتشفي تغيّره في الأيام الأخيرة.. رفضت أن تكوني ذكية .. رفضت أن تصدّقي أن زوجك يمكن أن يتغيّر.. أن يتحوّل إلى رجل قاسٍ.. كنتِ تعيدين كلّ تصرّفاته وحماقاته إلى الفقر الذي يعمي القلب:
" وعندما تتحسّن الأحوال سيعود.. سيعود إلى قلبه الكبير الأبيض، إلى ذراعيه اللتين تلاحقان خصري، إلى شفتيه اللتين تلاحقان كلّ مسام جسدي، وأنا أغسل الصحون، أو أتحرّك بين الغرفة الضيقة والمطبخ الضيق والشرفة الواسعة المفتوحة علىاللانهاية"
تطمئنين قليلا" إلى أحلامكِ.. ولكنّ التلفزيون يعيدك إلى شقّتك الجديدة: أطفال بعمر الورود يواجهون الخوذات والبنادق، يركضون أو يسقطون، بيوت تتهدّم في بيت المقدس، أو في تركية، وريختر يشير إلى 7,2 ، فيضانات تملأ القلب بالحزن الكسير، رطوبة، أمطار بإذن الله تعالى، أوولويز لحماية أنظف وأجفّ، أشهد ألاّ امرأة إلاّ أنتِ ..وزوجك لا يعود..
تنظرين بحقد إلى الباب الصلد المغلق، تقع عيناك على مقبضه: حركة صغيرة وتنزلين الدرج، وتجدين نفسك أمام شقة نادية، فلمـاذا التردّد؟؟
* * *
تترحّمين على الضوء الساطع في شقّتك حين يصدمك الضوء الخافت الذي ينير الدرج على استحياء، تشعرين بالهلع، خمس درجات أو ست، وتصلين إلى بيت صديقتك.. تستجمعين رباطة جأشكِ، بسم الله الرحمن الرحيم، تندهشين: ليس ثمة باب.. ثمة رجال بعيون زرقاء يسمَرون، يغنّون أغاني الروك، يدعونك إلى الرقص فتهربين إلى الشقة المجاورة: الضوء الشاحب اللعين يعلن عن خمسة رجال أقوياء، تبرز هياكلهم العظمية كسيوف مسنونة، يحملون على أكتافهم امرأة.. وأنت تلطين خلف الجدار، يذبحها أحدهم باسم الحرّية والمدنية، يصفق له الآخرون، الدم يشخب من الوريد إلى الوريد، وهم يخرجون دون أن يغسلوا أيديهم، تاركين خلفهم جثة امرأة تختزن في عيونها المفتوحة حزن دجلة، ويفوح جسدها بأريج الدم والتمور.
تدوّي في رأسك أصوات اجتماعات وانفجارات لا حصر لها، تسمعين صوت طقطقة عظام، وصراخ أناس يُدفنون أحياء، تنتظرين حتى تطمئني إلى ذهابهم، ثم تلتهمين الدرج نحو شقتك هرباً من الرعب القادم من كل مكان، تجدين الباب مفتوحاً، والمقزّزين قد سبقوك إلى الشقّة، والهياكل العظمية تدور في الصالون الواسع، وهي تلبس قمصاناً مخططة بالأبيض والأحمر، الرجال الأنيقون يضحكون لك، يغنّون، يشعلون الشموع ويطفئونها.. ثم يودّعونك وينصرفون.
ها انت ذي وحيدة مرّة أخرى.. تطمئنين إلى وحدتك أكثر مما تطمئنين إلى وجود هؤلاء، تقرّرين أن تشعلي المسجّل: إنتَ سبب بلوايْ.. يا حيرتي وشكوايْ.. صوت آخر يطغى على صوت الأغنية، ترتعدين حين تسمعين صوت تكسّر البلاط الأرضي، حين تبصرين شيئاً ما يتكوّر ثم يستقيم: الجثة الملفوفة بلأبيض تقف في مواجهتك، وعلى عكس ما تتوقعين، تشعرين بالاطمئنان حين تميّزين وجهها: فتحية!! ماذا تفعلين تحت البلاط؟
فتحية:
تقفز السنوات إلى الوراء، حين سافرتِ مع زوجك إلى السودان، تقفين إلى جانبه في غربة العمل، حينذاك.. وقفت فتحية إلى جانبك لكي تواجهي غربة الروح، وها هي ذي تعود الآن لتؤنسها مرّة ثانية.
" ـ … ولكنك نهضتِ من تحت الأنقاض..
ـ نهضتُ كثيراً، وحلمتُ كثيراً، ولكنهم كانوا يكرّرون قتلي.
ـ أراك أصلب عوداً، أما أنا فمتعبة يا بنت عمّي."
تقترحين عليها أن تذهب معكِ إلى الحمّام حتى تكشطي عنها موتها، ولكنّ الجرس ذا الأنغام المتعددة يبدأ عزفه، ترحّبين بصديقتك ناديا، "زيارة غير متوقّعة.. أليس كذلك؟؟ سمعتُ أنك تسكنين هنا فجئت أهنّئك.. لقد أحضرت معي هدية البيت الجديد،انظري.."
تنزعين الغطاء بنفسك عن تمثال امرأة ترفع يدها تحت الشمس، تسمعين فحيحاً غريباً:
"ـ ألـم تعجبكِ الهدية؟
ـ ما هذا البيت اللعين؟
ـ أراه مريحاً تماماً.
ـ دمٌ في كل مكان، تكسير عظام، جثث تحت البلاط."
تنتبهين إلى فتحية وهي تعود بهدوء مثير إلى مكانها تحت البلاط، بينما تسألين نادية عما يشغلك، تطمئنك ببرود: "ستتعوّدين على ذلك، يدفنون جثة كلَّ يومين، وأنا أعرف أن في شقّتي ما يزيد عن أربع جثثث.. لا تشغلي بالك.. سرعان ما تتعوّدين."
تقفزين كالملسوعة.. تركضين إلى ذراعَيْ زوجك الذي دخل لتوّه، تبكين، تنتبهين إلى أنه يرتدي قميصاً مخطّطاً بالأبيض والأحمر، فتهرعين إلى تمثال تلك المرأة، وترمينه بقسوة على الأرض.. تخافين من عشرات القطع التي كانت قبل قليل تمثالاً لامرأة، حين تتحوّل كلّ منها، في مثل لمح البصر إلى تمثال جديد..
تجتازين زوجك وناديا والباب والدرج المظلم إلى الشارع، باحثة عمّن تبقى لك في الدنيا، يصعقكِ منظر الناس الذين وحّدوا قمصانهم مع قميص زوجك، تتمنّين في قرارتك أن تجدي ابنك في قميصه الأخضر الذي اشتريته له ذاتَ عيد.
22/11/1999