الطالب الكسول
د. يوسف حطيني
(إلى أطفال بيت لحم)
(بأسناني…
سأحمي كل شبر من ثرى وطني…
بأسناني …
ولن أرضى بديلاً عنه...
لو علقت من شريان شرياني)
كان العرق يتصبب غزيراً، فيملأ وجه الأستاذ عائد بحباته المتلألئة بينما كان يشرح هذا المقطع الشعري بانفعال شديد:
(هنا يؤكد الشاعر على تشبث الإنسان الفلسطيني بأرضه مهما كثرت محاولات قوى الشر التي تريد اقلاعه منها..إن القصيدة كما تلاحظون مليئة بالت…)
- عبد النور،صاح المدرس غاضباً، إلى أين تسوقك أفكارك الشيطانية،أنت شارد دائماً، وإذا سألتك أي سؤال فلن تستطع أن تجيب إلا بابتسامتك البلهاء.
ولكن عبد النور لم يجب هذه المرة بابتسامته المعهودة، بل كان رده دموعاً ساخنة غزيرة راحت تتدفق من عينيه..
الحدة في لهجة الأستاذ عائد تحولت إلى ما يشبه الهدهدة، اقترب من عبد النور، ربّت على كتفه الصغير، وراح يمسّد شعره الأجعد:
لماذا تبكي يا بني؟ أحسّ الأستاذ عائد أن كلمة (بنيّ) غير مناسبة، فهو لم يتزوج بعد، ثم أنه لا يكبر طلابه بأكثر من عشر سنوات. غير أنه مع ذلك شعر بحنان غامض تجاه عبد النور، على الرغم من أن هذا الولد لم يجب منذ بداية العام الدراسي على سؤال واحد.. إنه أكثر الطلاب كسلاً وشروداً، كان الجميع يعرفونه بلقب الطالب الكسول، ويبدو أنه لم يعد يتضايق من هذا اللقب على الرغم من جريانه على كل لسان في مدرسة بيت لحم الإعدادية.
يشعر عبد النور بعطف غامر، حنوٍّ يملؤه بالشجاعة، ولكن دموع عينيه ماتزال تغمر وجهه.
إنه سيتكلم، هكذا قال في نفسه، لن يصمت هذه المرة أيضاً، يستطيع أن يقول أشياء كتلك التي يقولها الأستاذ دائماً…
لأول مرة كان لديه مايقوله، انفرجت شفتاه عن أسنان صفراء…وراح يتحدث بما يشبه النشيج:
ـ أستاذ، طلب الجنود من أبي أن يذهب إلى مقرّ الحاكم العسكري، وحين عاد كان يحمل أمراً بهدم منزلنا، نعم، لقد رشقت أحد الجنود بحجر أصابه في مؤخرته (يغرق الصف في ضحك عالٍ،أراد عائد أن يزجر الطلاب لكنه وجد نفسه يضحك مثلهم).
مع جلبة الطلاب، استطاع صوت عبد النور أن يتخلص من حشرجته وينطلق حاداً، شجاعاً، صافياً:
لقد أراد أن يأخذ من أختي الصغيرة (سندويشتها) فنال جزاءه..لحقني ولكنه لم يستطع الإمساك بي، وحين وصلت إلى البيت دفع الباب يريد إمساكي، فتصدت له أمي..
آذان الطلاب معلقة بما يقوله عبد النور، لقد أحس بالزهوّ حين أدرك أنه صار محور اهتمام الجميع فزال عن صوته كلّ ارتباك:
سألها الجندي عن أبي فقالت له: إنه مايزال في معمل الصَدَف، لحقه إلى هناك، وأخذ هويته وأخبره أن عليه مراجعة الحاكم العسكري.. هذا ماحدث،قال الحاكم العسكري أيضاً:
أن علينا إخلاء المنزل من الأثاث خلال ثمان وأربعين ساعة. نسي الأستاذ عائد أنه يشرح لهم قصيدة توفيق زياد، فراح يحدثهم عن مئات البيوت التي تهدمها جرافات الجيش الإسرائيلي أو تفجرها بالديناميت في رام الله ونابلس و قلقيلية:
- إنها أشياء ترونها يومياً يا أحبائي الطلاب، كل واحد فيكم له أخ شهيد أو جريح أو معتقل (تذكر عائد أخاه خالد الذي قتلته عصابات المستوطنين على حدود مستوطنة "إيفرات") .
أحس عائد أن طلابه مشدودون إلى كلامه أكثر من أي وقت مضى. يستمعون بآذانهم وعيونهم وقلوبهم إلى ما يقوله، قال لهم:
إن للحجارة دوراً تعرفونه جيداً..أليس كذلك؟ ردّ الطلاب بصوت واحد:نعم يا أستاذ.
حين سمع الطلاب ضجة كبيرة خارج الصف أدركوا مباشرة أن الجنود الإسرائيليين قد دخلوا المدرسة. يخرج عائد ليرى كل طلاب المدرسة في الباحة، وليعرف بعد ذلك أن المدرسة ستغلق حتى إشعار آخر بسبب وجود شعارات وطنية على الجدار.
* * *
كانت رائحة شوارع بيت لحم تملأ رئتيه بالقدسية والعذوبة، دموع العذراء الساخنة ما تزال تطهّر هواء المدينة على الرغم من دنس الأعداء. وكنيسة القيامة التي صلّى فيها سيدنا عمر يحفر حبها في نفسه جراحات عميقة. كان عائد كلّما ذهب إلى عمان ليقدم الامتحانات الجامعية، يشعر أنه مقتلع من حارات بيت لحم الضيقة، ومن بيوتها المتراصة..كانت الجدران الكلسية السميكة تشعره بالدفء فيحمل ذكراها معه إلى غربته.
إيه..بسيطة،كلها سنة واحدة ويحصل على الإجازة في اللغة العربية، وعندها لن يغادر بيت لحم وسيبقى مزروعاً في أرضها كشجرة زيتون عتيقة.
عائد وهو يسير نحو منزله في البلدة القديمة، كان يكدّ ذهنه في أن يبعث تقريراً مفصلاً لجريدة (الفجر) عن المنازل التي هدمت ونسفت وأغلقت في بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور،سيشرح في التقرير الأسباب التي (يخترعها) الجيش الإسرائيلي لكي يهدم أي منزل يريد.
حين اقترب من البيت، كان والده يجمع حوله عدداً من المسنين،وكان لغطهم يصل إلى أذنيه، ظن أنهم يناقشون،كعادتهم، كيفية تأمين الخشب الكافي لصنع التحف الخشبية التي يشتريها السائحون القادمون إلى بيت لحم من جهات العالم الأربع، غير أن كلماتهم التي سمع بعضها كانت توحي بشيء آخر: الحاكم العسكري..عدم الترخيص..المنزل..ثمان وأربعون ساعة.
ـ ولكن تصريح بناء المنزل موجود يا أبي.
ـ لا يا بنيّ… فقد مزقه الحاكم العسكري!
* * *
صباحاً.. تجمّع حشد كبير من الناس يراقبون عن كثب عملية نسف منزل الأستاذ عائد، بينما راح الجنود يدفعون الأطفال..
فجأة،مع صوت الانفجار الهائل،طار ضلع من قلب عائد، ينما تناثرت أحجار البيت هنا و هناك.
كان الأطفال يقفزون فوق الأحجار التي كانت منزلاً جميلاً دافئاً، هاهم قد حملوا أحجاره المتناثرة وراحوا يرشقون بها الجنود.
حين انضم عائد مع كثير من الشبان إلى الأطفال، لمح بينهم عبد النور، وأدرك أن طالبه الكسول فهم درساً أهم بكثير من تلك الدروس التي كان يقابل أسئلتها بابتسامته البلهاء…
5/6/1990