لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: لا تصدّق دموعي

لا تصدق دموعي

د. يوسف حطيني
"مذكرات امرأة لا تنتمي لكوكب آخر"


1


كان ثمة بيت أليف يستلقي باطمئنان ودعة على كتف بحر غزة، بيت، أضحى فيما بعد معروفاً تماماً، من بيوت حي الشجاعية في مدينة غزة، دلنا عيه كل أهل الشجاعية، قالوا بفخر: هذا هو بيت أم نضال.
وإذ دخلت رأيت وجهاً من وجوه النساء المجتمعات يفيض نوراً وحبوراً، امرأة تحيط بها كل النساء الباكيات، أما هي فتبتسم برضا، قلن: هذه أم نضال، أردت أن أبتسم لها ولكنني وجدت نفسي أنضم دون إرادة مني إلى جموع الباكيات.
بيت كان يتسع لأحلام جميع أفراد الأسرة، غرفة هنا وغرفة هناك، ولكنه سيغدو أفضل حين يكتمل بناؤه، ها هو ذا اليوم فارغ تماماً من الأثاثن فهمت من النسوة أنه أفرغ على عجل بانتظار أمر هدم قد ينفذ بين ساعة وأخرى، كان يستحيل علي أن أصدق أن جرافات الجيش قادرة على اقتلاع أم نضال، أو اقتلاع شجرة تين كانت تتحدى الجنود والمستوطنين وسط ساحة الدار.
2
افتحي، أم نضال، جرح كبريائك على مسامعنا فنحن ننتظر بلهفة.
3
كنت سعيدة سعادة لا تشبهها إلى تلك السعادة التي عشتها يوم أتيتني وأنت تحمل سلاحاً، يومذاك أحسست أن الحلم صار أقرب. جلست أصلي منتظرة استشهاده، طلبت من الله عز وجل أن يمنحني شرف استشهاده بعد أن نذرت إخوته الستة لله.
ستّ ساعات وربع الساعة مرت دهراً.. قضيتها بين سجادة الصلاة والدموع بينما كان لساني يلهج بالدعاء، كنت خائفة خوفاً شديداً، مزقتني آهات الأم التي ستفقد ابنها، وآهات الوطن الذي شربت من مائه، وجلست في ظله.جئتني لتقول: إنهم قد يختارونني، وتابعت بحزن: وقد يختارون محمد حلس لتنفيذ العملية، المشهد يتكرر أمامي الآن.. ذهبنا معاً إلى إخوتك، ورجوناهم أن تكون أنت.. وهكذا كان.. إياك أن تضعف يا بني، فالجنة على مرمى مستوطنة يقيم فيها الأغراب المغتصبون.
تعود بي الذاكرة إلى عشر سنين خالية، "في بعض اللحظات كنت أشعر بالقلق، لأن وجود "محمد عقل" في المنزل يشكل خطراً كبيراً عليك وعلى إخوتك، ففي أي لحظة يمكن أن يتعرض المنزل للهجوم، ويمكن أن أفقدكم جميعاً، وكنت سرعان ما أهذب نفسي وأنهرها، فإن كان عقل حمل روحه على كفه ليقاوم جيش الاحتلال، فنحن كذلك على استعداد أن نضحي بأرواحنا من أجل أن نحميه ونحمي وطننا".
4
أفواج النسوة المتشحات بالسواد تحتشد في صحن الدار، وثمة عجوزان صامدتان: شجرة التين وأم نضال التي ازدادت روحها ألقاً وخضرة مع كل كلمة تقولها، كانت تحدثنا – او هكذا كان يبدو- ولكنها كانت تشعر كأنّ محمد يجلس بيننا.
5
أنا أتذكر كل شيء، وعقارب الساعة تمشي ببطء نحو العاشرة مساء.. أخبرتني في الوداع ألا أجزع، قلت لك: لا تصدق دموعي، واثبت حتى تلقى ربك.
ها هو ذا أخوك وسام قابع خلف قضبان السجن، بينما يعيش نضال مطارداً غريباً، ترى كيف يعيش المرء مطارداً غريبا في وطنه؟!
ما زلت أتذكر تلك اللحظات الرهيبة التي عانقتني فيها للمرة الأخيرة:
سعادة مشوبة بالخوف.. الخوف من الفشل.. الخوف من أن تعود خائباً أو معتقلاً.. أحبك يا بني.. ولأنني أحبك فإنني سأقدم لك غاية ما تتمناه: الجنة.

6
حدثينا يا أم نضال، فكلماتك تنزل مثل مطر على قلوبنا الظامئة، كيف يمكن لأمّ أن تودع ابنها إلى الشهادة، رحت أبحث في عينيها دون جدوى عن شيء يشبه الدموع.. ترى ما الذي كان يضيء وجهها؟؟
7
حين ودعتني للمرة الأخيرة ضعفتُ، سالت دموعي على وجنتي، قلت لك باسمة: لا تصدق دموعي، ونفذ تعليمات رفاقك المجاهدين، لا أريد لك أن تفشل، فما زلت حتى الآن أبتلع الغصة التي خلفها أخوك في قلبي إذ قبض عليه قبل تنفيذ العملية.
قلت إنك ستقتحم المستوطنة، ودعتنا جميعاً الساعة الخامسة مساء ولم يكن أحد سواي يعرف وجهتك، ذهبت وتركتني أنتظر.
أفتح التلفزيون، بانتظار خبر عاجل.. لقد تأخرت يا محمد.. تأخرت كثيراً..
أتذكر الشهيد عماد عقل الذي يلقبه الإسرائيليون بذي الأرباح السبعة، أذكر أنك تعلمت منه الكثير، كنت تحب أن تستمع إليه حين كان يعود إلى منزلنا بعد تنفيذ كل عملية، قبل أن يختبئ في الخندق الذي حفرناه تحت حظيرة الحمام، هذا المكان الذي غدا فيما بعد ملجأً للمقاتلين.
8
الوقت: ليلة الثامن من شباط 2002، الساعة الحادية عشرة والربع مساءً:
"في خبر عاجل وردنا قبل قليل نفذ فدائي فلسطيني عملية جريئة في مستوطنة غوش قطيف أدت إلى إصابة عشرات الجنود الإسرائيليين بين قتيل وجريح".
صليت ركعتين شكراً لله تعالى، وعلمت فيما بعد أن العملية أدت إلى مقتل أحد عشر جندياً وإصابة أكثر من سبعة عشر آخرين.
9
ما زالت أم محمد فرحات تروي الحكاية ذاتها، أما المنزل فقد أحالته الجرافات الإسرائيلية حطاماً، بينما بقية شجرة التين تمد فروعها نحو السماء.