الطريق إلى مخبز (شَبَارو)
د. يوسف حطيني
1
لم يكن عيسى طالباً كسولاً أبداً، ولم يكن مجبراً على هذا النوع من الدراسة المجهدة، ولكنه سعى بما يملك من الذكاء والصبر إلى كلية الطب، وبذل جهداً استثنائياً فيها حتى يتمكن من الالتحاق بقسم الجراحة فيما بعد.
ولم يكن جباناً أيضاً، فالذين ظنوا أنه خاف من رؤية تلك الجثة التي كانت تبتسم لا يعرفون شيئاً، إذ ليست هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها تشريح جثة أمام ناظريه، إضافة إلى أنه شاهد من الجثث ما يكفي ليجعل رؤية ذلك المنظر المرعب اعتيادياً، ولكن صرخة الفزع المدوية التي أطلقها، وخروجه المفاجئ من قاعة التشريح، ترك على وجوه الطلبة سؤالاً مفتوحاً مثل جرح غائر.
2
عيسى كان منذ صغره طالباً متميزاً مجتهداً، أحبّ أمّه حباً صوفياً، مثلما أحب الأرض التي انتمى إليها، أحبّ وجه حبيبته الذي يشبه لون التراب، ثمة أمر كان يحيره دائماً: ما سرّ هذا التشابه الغريب بين وجه أمه ووجه فاطمة والتراب الذي يكاد ينغرس في كل ذرة من ذرات جسده الغض.
كان يحب أصدقاءه الكثيرين، ويوزع عليهم الفرح والحب والخبز، وإن كان نصيب فاطمة من كل ذلك هو الأكبر.
صغيراً جداً كان حين تعرّف إليها، لم يكن قد بلغ العاشرة حين أخذته أمه معها إلى نابلس في زيارة للأقارب، ما زال يذكر تلك الزيارة جيداً، أحس حين خرج من حارات بيت لحم الضيقة أنه اقتلع من ترابها بقسوة، خلايا شارع المهد كانت تعانق خلاياه، أحس أنه يشبه سمكة تخرج من مائها حين تذكر تلك المغارة التي غنت لها فيروز، وأمه، وجميع الأمهات، معه حق.. فهي المرة الأولى التي يغادر فيها بيت لحم. غير أن شعور الاكتئاب غادره تماماً حين وصل إلى نابلس وفاطمة، إذ أدرك أن المدن تتشابه وكذلك الغيوم والأمهات، وشعر أن ذلك العصفور الصغير الذي يرفرف في صدره يمكن أن يتسع لأمه ولفاطمة وبيت لحم ونابلس وفلسطين، ولكل الناس والأمكنة.
قالت له أمه: سنبقى أسبوعاً ثم نعود.
3
ستة أيام قضاها مثل حلم جميل، كان ينتقل بين أمه وبين حكايات أم توفيق، وقن الدجاج الذي كان يسعى إليه ويلعب مع فاطمة والدجاجات.
ستة أيام استطاع خلالها أن يفهم معنى حب الوطن وحب فاطمة التي كانت تحكي له حكايات كثيرة عن خان التجار والحلاوة بزلابية ومسجد الشهداء وبئر يعقوب.. تحكي له عن الجنود الذين رأى مثلهم في بيت لحم، حكايات تشبه حكايات أمه، وحكايات أم توفيق.
استطاع في ستة أيام أن يخبئ في حنايا صدره الصغير سراً كبيراً لن يبوح به لأحد: لقد قبّل فاطمة قبلتين:
كانت الأولى قبلة سريعة خاطفة، لم يتمالك نفسه حين رآها تحمل له عروسة الزعتر إلى قن الدجاج، فعانقها، وطبع على خدها تلك القبلة اللذيذة، ولكنه لم يكن يعرف لماذا اصطبغ وجهها بالأرجوان، هي مجرد قبلة، ببساطة قبلها لأنه أحبها، قبلها مثلما يقبل أمه وتراب بيت لحم، كان ينوي أن يقول لأمه عن ذلك، ولكن فاطمة رجته ألا يفعل، قالت له: عيب وحرام، وعدها ألا يخبر أحداً، بشرط بسيط هو أن يقبلها مرة أخرى، ففعل ولكنه أحس للقبلة طعماً مختلفاً إذا انتفض جسده انتفاضة راعشة فيما شهقت فاطمة، ولم يصطبغ وجهها، هذه المرة، بالأرجوان.
ستة أيام...
تبادلت العيون الصغيرة الأسرار، اختلطت حكايات الحب بحكايات الحرب، وارتسمت على الشفاه ابتسامات شقية تلخص مخاض حب سيخضر على مدى الأيام.
ستة أيام..
وفي اليوم السابع
4
كانت المشاعر تختلط في صدره، يكاد عصفوره يقفز من بين جنبيه فرحاً، لأنه سيعود إلى بيت لحم، غير أن هذا الفرح الكسير لم يأخذ مداه، لأنه موسوم بحزن يفتح دفاتر عشقه على مصراعيها: كيف سيترك نابلس وفاطمة؟ وطعم قبلتها الثانية ما يزال يلذع شفتيه الرقيقتين، وأحاديثها عن الجنود تملأ كيانه بالتمرد....
عرضت عليه أن يمشيا في شوارع نابلس التي أحبتها، وافقت وخرجا بعد أن تناولا لبنة وزعتراً وعسلاً...
أحبت أن تأخذه إلى مخبز شبارو، كانت الطرق المؤدية إليه تشبه قلباً يخفق بشدة، ومثل قدر مفاجئ ظهر الجنود في أحد الشوارع نبتاً شيطانياً غريباً... اقترح عليها أن يسلكا طريقاً أخرى، قالت: ثمة طرق كثيرة، ولكنها جميعاً معقدة وملتوية...
جلس إلى التراب، وناولها عوداً رفيعاً، طلب إليها أن ترسم خارطة للطريق المحتملة، ولكنها قالت بعناد: لا أحب الخرائط، فهاهو ذا المخبز يلوح أمامنا في نهاية الشارع.
وضعت يدها مثل قبرة سعيدة في يديه.. وحين شد على أصابعها انتابهما فرح غامر له طعم التحدي...
وصلا إلى مخبز شبارو، رائحة الأرغفة الشهية تصل إلى أنفيهما، نظرة سريعة خاطفة تجاه تلك الأرغفة جعلت أبو محمود يدفع إليهما برغيف ساخن ما زال عيسى يحتفظ بنكهة مذاقه.
من الطريق ذاته مرّ عيسى وفاطمة وهما يتقاسمان الخبز والأحلام، شجعته أن يشتركا في المظاهرة التي اخترقت الشوارع، صارا وسط الحناجر التي تهتف لفلسطين، حاصرهم الرصاص من كل جانب، حاصرهم الدم، كان الرصاص يئز أزيزاً مرعباً، وكان الموت طائراً أسود يحلق فوق الجميع. لأول مرة يسقط شهيد على بعد خطوة منه، لأول مرة يطلب منه جريح أن يساعده، كان مذعوراً مثل أرنب صغير، وكانت فاطمة تبكي بحرقة، لقد صبغت الدماء ثيابهما، واستغاثات ذلك الجريح لا تزال تمزق قلبيهما الصغيرين.
5
إذاً فإن من يعتقد أن عيسى وفاطمة دخلا قسم الجراحة في كلية الطب دون تخطيط وإصرار يقع في خطأ كبير.
وإن من يعتقد أنه كان جباناً مخطئ أيضاً، إذ لا يمكن لأي إنسان أن يحتمل رؤية جثة أمه على طاولة التشريح.
6
لم يستطع أن يعود إلى بيت لحم إلا بعد أن انتهى حظر التجول الذي فرضه الجنود المدججون بالحقد والرصاص، شهران كاملان لم يخرج سكان نابلس من بيوتهم، لم تخرج أمه مع أم توفيق إلى (سوق البصل) ليجلبا الخضار الطازجة، لم يخبز مخبز (شبارو) أي رغيف.. لم يذهب أبو توفيق إلى معمل الصابون، لم.. ولم.. ولم....
شهران كاملان اكتشف خلالهما أن الطريق إلى مخبز شبارو واضح ومباشر.. شهران أدرك خلالهما أهمية قن الدجاج، فهو لم يخلق للقبلات السرية والألعاب الشقية فقط...
في هذا القن.. رأى أم توفيق تهتم أكثر بإطعام الدجاجات وتهتم أكثر بجمع البيض منذ أبكر الصبح، فقد صار البيض طعام العائلة الرئيس في ظل حصار لا يعرف الرحمة.
وفي هذا القن اتخذ مع فاطمة قراراً مهماً يتعلق بمستقبلهما، فقد قررا أن يكفرا عن ذنبهما حين لم يستطيعا أن يسعفا ذلك الشهيد الذي كان جريحاً.
7
بدت حياة عيسى منتظمة إلى حدّ كبير، كثير من الجد، وكثير من الأسى، من الجامعة إلى المظاهرة، ومن التشريح إلى مواجهة الجنود بالحجارة، ومن كل شيء إلى فاطمة.. تلك الأنثى التي تذوب خجلاً حين يتحدث عن دفاتر العشق، وحين يقرأ لها شعر نزار قباني، تلك الأنثى التي تحمل في عينيها الجميلتين إصراراً لا حدّ له وقفت إلى جانبه إثر ذلك الحادث المروع الذي أثر في حياته تأثيراً عميقاً.
في ذلك المساء الكئيب حين عاد إلى المنزل لم يجد أمه.. كان قد اتفق معها أن يرتبا أمور زواجه من فاطمة، وهاهو ذا يفتش عنها في كل مكان دون جدوى، فجأة ضاعت مثلما ضاع كل شيء...
لم يصدق أنها ماتت حين أخبره ذوو القربى، ولم يصدق أنهم سرقوا جثتها حتى رآها أخيراً ممدة أمامه على الطاولة.
8
حيث كان الظلام ينتشر كثيفاً، حيث الشهداء يحلمون بفجر وقمح وجرعة ماء كان ثمة رجلان يستعدان لتشريح جثة مريم: رجل يخبئ في حقيبته مسودات أوسلو ويدلي بأسماء ضحاياه وجرحاه وأسراه، وآخر يخفي خنجره ومجازره وراء ربطة عنقه الحمراء.
9
لم يقتنع عيسى بن مريم أن أمه تقبل التشريح والقسمة، لذلك قاطع دروس التشريح، وانطلق مع فاطمة بنت محمد ليبحث عن أمه من جديد.
4/ 6/ 2003.