لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

نسكافيه!!
د. يوسف حطيني



1
لا أشعر بالتعب على الإطلاق، ولكنني أشعر بالحزن فقد أغرقتني زوجتي العزيزة بدموعها قبل نحو ساعة من الزمن، أما يارا فقد كانت تبكي بدموع غزيرة أحرقت قلبي، فيما كانت يدها الصغيرة تلوح لي بعد أن ابتلعني ممر المسافرين.
يارا ذات الجدائل الفيروزية الشقراء تشبه وردة بيضاء في عمر حالك قضيته غريباً عن وطني وعنها.
يارا: ترى أي حزن يسكن عينيك الدامعتين، وقد حان الرحيل:
- مع السلامة.. بابا.
أشعر بالضياع بينما أدخل الكافيتريا الصغيرة القريبة من قاعة الانتظار، وهناك أبحث دون جدوى عن طاولة أستريح إلى كرسيها، لقد كانت جميع الطاولات تغص بالمسافرين الذين يودعون المدينة الكئيبة بفنجان قهوة أو كأس شاي بنكهة النعناع. ثمة شاب وفتاة يجلسان إلى إحدى الطاولات، وثمة كرسي فارغ بجوارهما، حملت جسدي المتعب إليهما واستأذنتهما بالجلوس، قالت الفتاة بالإنكليزية:welcome ، فجلست.
* * *
حاولت ألا أزعجهما، أن أشرب شيئاً ما ثم أتركهما لخلوتهما، غير أن الفتاة اقتحمت عزلتي عدة مرات، إذ راحت توجه إلي أسئلة مختلفة، وقد أجهدت نفسي كثيراً لكي أستجمع ما أحفظه من الإنكليزية لفهم أسئلتها ثم الإجابة عنها:
- من أين أنت؟
- من هنا، أقصد عربي.
- وأين تسافر؟
- إلى دبي.
- وهل هي جميلة؟
- نعم؟
- وهل فيها خيام؟
- خيام؟ دبي يا آنستي لا تقل جمالاً وتنظيماً عن أية مدينة أوروبية، إنها باريس العرب: أبنية شاهقة، حضارة، تكنولوجيا، شيء يشبه السحر.
لم أسألها أي سؤال، ولم يسألني ذلك الشاب الذي كان يجلس معها أي سؤال أيضاً، كانا يشربان الـ "نسكافيه"، فطلبت لنفسي "نسكافيه" أيضاً..
أخذت تعبث بشعرها، ثم راحت بعد ذلك تحدثني عن نفسها، وهي تنظر في عينيّ مباشرة:
3
اسمي شارون، اسم شارون مفضل عندنا للرجال والنساء، (كلماتها تحفر في قلبي جراحاً عميقة لها طعم مجزرة) أنا من "إسرائيل" (قالت ذلك بشيء من التحدي)، أتمنى أن أزور دبي، أن أزور دمشق، حتى عمان أتمنى أن أزورها، وها أنا ذي أمرّ من هنا ترانزيت، أخاف إن مشيت في شوارع أية مدينة عربية أن يطلق عليّ أحد ما النار، أو أن يخرج إلي أحدهم بسكين فيمزق أوصالي.
تشرب من فنجانها رشفة صغيرة ثم تبتسم بحيوية:
أنهيت دراستي الثانوية، وأنا ذاهبة مع صديقي موشيه إلى الهند حتى نقضي إجازة ممتعة، أتعرف الهند؟
4
ترى بم تشعر أيها المطار الكئيب؟ هل استشارك أحد في هذا؟
توقعت كل شيء إلا هذا، "إسرائيليان" يجلسان معي، على الطاولة ذاتها، لم يكن موشيه يفعل شيئاً سوى التأهب، مثل قط مستنفر كان ينظر حوله، كأن جحيماً مرعباً سينبثق من مكان ما حوله، فوقه أو تحته، أما شارون فقد كانت منطلقة، حدثتني عن قرابتنا، عن تراثنا المشترك، عن الأغاني الشرقية التي تحبها، حدثتني عن أم كلثوم، قالت: من الممكن أن نتعايش معاً، لفتت نظري إلى أننا نشرب الـ "نسكافيه" معاً، قالت: يمكن لنا أن نرقص معا، أن نغني (ثم غمزت بعينيها) وأن نتطارح الغرام. وحين هززت رأسي مسلوباً، قالت بانتصار: يحيا التطبيع.
5
ها هي ذي تغني لي وترقص على كرسيها، وكأن ذلك الشاب ليس موجوداً معها، غادرتْ تل أبيب إلى الهند، ستغيب سنة مع صديقها، فهي تخاف كما قالت الأوضاع الحالية، تخاف "المخربين" الذين حولوا حياتها إلى جحيم، قالت– ببلاهة – إنها تستغرب كيف يقتل الفلسطينيون أنفسهم.
6
أردت أن أحدثها عن خالتي أم الخير التي جرفتها الجرافات مع منزلها في مخيم جنين، عن أولادها الذين لا يجدون عملاً ولا طعاماً منذ أشهر، عن أطفال المخيم الذين دخلوا المعتقلات قبل أن يدخلوا المدارس، عن طائرات الأباتشي التي مزقت أحلاماً سعيدة كانت تغزلها الملائكة للصغار..
أردت أن أحدثها عن أولئك الذين لا يستطيعون أن يتفيأوا في ظل شجرة زيتون ورثوها عن أجدادهم منذ بدء الخليقة.. ولكني ترددت حين لمحت أعيناً تترصدني..

6
قالت: أنت تبدو متحضراً: ألا توافقني أن هؤلاء الشياطين إرهابيون؟ ألا ترى أنهم يلاحقوننا في كل مكان؟
هل أترك فنجان الـ "نسكافيه" على الطاولة وأنسحب، الأعين التي تترصدني أخافتني، بقيت بلا حراك، بلا لسان، مثل ذلك الشاب الذي يجلس معنا، قد ينتصر الصمت في بعض الأحيان. قالت: طائرتنا ستنطلق عما قليل، وقفت، ووقف زميلها، قالت: فرصة سعيدة، وانطلقا، التفتت، لوحت بيدها ورمت لي قبلة في الهواء.


7
حين داعبتني نسمات ذلك الصباح على شرفة المنزل الذي أقيم فيه في دبي، كان أول خبر سمعته:
- "طائرات الأباتشي تقصف بالصواريخ سيارة مدنية في غزة، وتقتل رجلاً وزوجته وأطفاله الثلاثة، وتجرح تسعة أطفال آخرين".
شعرت بالمرارة وأنا أصرخ في وجهها:
- القضية ليست فنجان "نسكافيه".
بدت يدها التي لوحت لي ملطخة بالدم، بينما كانت "يارا" تلوح لي على بعد آلاف الأميال بيد تشبه نضارة ربيع قادم لا محالة.

27/6/2003