لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: نصرة بنت أبيها

نصرة بنت أبيها
د. يوسف حطيني



انتصب واقفاً، تسلق النافذة ببصره، نظر إلى السماء التي مازالت تنقشع غيومها السوداء غيمة إثر غيمة، تحسّس قلبه المتعب واستطاع أن يسمع نبضه بوضوح، حمد الله كثيراً، وحاول أن ينام.
إنه عطوان الحمزة، ينتصب واقفاً كل مساء، ويمدّ بصره نحو السماء ليطمئن إلى تبدد الغيوم.
هكذا ينهي أيامه منذ وقت طويل..لم يذكر كم مضى من الوقت في هذا المكان.ولكن العنكبوت الذي ملأت خيوطه جدران الغرفة الضيقة، يشعره أنه أمضى هنا فترة طويلة ربما تزيد عن عشرين عاماً..
عشرون عاما، وربما أكثر، وهو يتحسس قلبه كل مساء….يتذكر زوجته الطيبة:
إيه..إيه.. يرحمك الله يا أمّ نصرة، ما زلت تجددين فيّ الأمل، طيفك الذي يعرش عقداً من الياسمين فوق قلبي المتعب يبعث في دفئاً له رائحة الزعتر.. قلبك الأخضر الندي الذي مازال يتسلق جدران ذاكرتي، ثوبك الأبيض الناصع، يداك الفواحتان برائحة العجين…
آه ياقلبي.. ما لحبل الذكريات ينشر أمامي كحبل غسيل أم نصرة:
"إلى جميع دوريات الأمن وحرس الحدود، وقوات حفظ النظام، ومخافر الشرطة: تعاونوا معنا في القبض على المخرب عطوان الحمزة:
العينان عسليتان، والشعر كالليل،والطول خمسة أقدام".
يذكر ليلة قبضوا عليه، وجاؤوا به إلى هذه الزنزانة:
كان نائماً، لا لم يكن نائماً، بل مستلقيا إلى جانب زوجته الدافئة، وكان الضوء المبهر الذي ينبعث من المصباح يملأ الغرفة بجمال أم نصرة.. كان عطوان من الرجال الذين يحبون أن يمتعوا حواسهم كافة - وحاسة البصر بشكل خاص - بجمال من يحبون.
كانت يداه تداعبان نهديها الأبيضين، الشهيين كعنقودي عنب، وعيناه لا تغمضان لحظة واحدة: عين على الجسد البض الندي، المنجرد كسيف تدرّب على خوض المعارك لا يهدأ ولا يستكين، والأخرى على (نصرة) التي كانت تغطّ في خدر لذيذ، بعد أن ملأت الغرفة بصوت تغريدها العذب.
أحس أن نصرة وحيدته، بحاجة إلى أخ يقف إلى جانبها، ويحميها من أنياب العسكر.. راحت يده الخشنة تهبط شيئاً فشيئاً.. إنه يبدأ نوبته الهستيرية اللذيذة التي اعتادتها أم نصرة كلما أراد أن يكوّن معها جسداً واحداً.
فجأة: صفع الجنود الباب،وصاروا فوقه تماماً،أراد أن يخفي عناقيد العنب عن عيون الذئاب، ولكن الأيدي الهمجية القاسية نزعته عن كرمه، وراحت تعبث بسنابل شعر أم نصرة، وتمتص برتقال شفتيها.. وحين حاولت الأيدي أن تمتد إلى عناقيد العنب، فتحت نصرةُ عينيها، ونظرت بحقد إلى ملامح قاسية في وجوه الجنود الذين أرادوا أن يأخذوا نصيبها من اللبن والحنان.
أراد عطوان أن يتحرك، صرخ ولم يسمعه أحد، اندفع الناطور يدافع عن كرمه، ضربه الجنود على رأسه، ترنّح.. سقط على الأرض.. رأى جندياً طويل القامة يطعن أم نصرة بحربة البندقية.. قالوا له في السجن: إن زوجتك ماتت وانقلعت إلى جهنم..
آه.. أيتها الأيام القاسية.
أيتها الأيام الجميلة.. لماذا لا تعودين؟ يصل شريط الذكريات إلى شلومو الذي سرق من عطوان حياة أبيه وعروسة الزعتر،وصخرة الأقصى، وابتسامة العذراء. يصرخ: "القاتل يقتل،كان يجب أن يموت،وكان علي أنا أن أقتله".
كانت نصرةُ تكبر يوماً بعد يوم، بعيدة عن ذاكرة أبيها الذي لم يعد يسمع عنها شيئاً،لأن الأوامر تمنع الأخبار والعصافير والشمس من زيارة السجناء، كانت نصرة تكبر، فتغدو طويلة كالنخلة، تشبه أباها تماماً، كما تنبأت العرافة العجوز ذات يوم، حين قالت لعطوان: هذه البنت ستكبر وتغدو مثلك تماماً..عيناها عيناها وأنفها كالجبل وشعرها كالليل.
هذه الذكريات تطعن قلبه دفعة واحدة، يتأمل جدران الزنزانة السوداء، يسمع حركة غريبة، ينتصب واقفاً، ينفتح الباب فجأة، يدخل جندي طويل القامة مازالت حربة بندقيته مليئة بالدماء، يصرخ في وجهه:
- ما اسمك أيها القذر؟
- لست قذراً.. ولكن اسمي عطوان.
- قذر وكذاب وابن حرام، مااسمك؟
- أنا عطوان، عطوان الحمزة، ابن حمدان وبدرية.
- يتأمل الجندي عطوان من رأسه إلى قدميه، يحدث نفسه بصوت مسموع:
ربما كان هو ولكن كيف؟ لقد وجهت القيادة لقوات الأمن وحرس الحدود ومخافر الشرطة أمراً بإلقاء القبض على عطوان الحمزة، بعد أن قام بمهاجمة ثكنة عسكرية هذا الصباح،عيناه عسليتان، شعره كالليل، والطول خمسة أقدام.
يشعر عطوان بالغبطة،حين يدرك أن العرافة كانت على حق ،وأن نصرة الصغيرة كبرت..ينظر إلى السماء من النافذة، فيراها صافية صافية، يضع يده على صدره، لا يسمع شيئاً..ولكن شيئاً ما كان يشعره باطمئنان غريب…وكما تسقط البجعة يتجه عطوان بهدوء ساحر نحو الأرض يقلبها، ويحتضنها،ثم ينام…

9/11/1991