الظل والمرحاض
د. يوسف حطيني
لاشك أنهم مازالوا يلاحقوني..
هذا الذي يتبعني من أول شارع صلاح الدين يضايقني، يشعرني أنه سينقضّ علي في أي لحظة.. ربما يقترب مني الآن، ويضع سجناً صغيراً حول يدي المهترئتين، ويأخذني إلى سيارة تخرج من شارع فرعي، ثم يمضي بي إلى حيث ألقى الذباب الأزرق رحاله، وضلّ طريق العودة.
ما أصعب أن يكون للإنسان ظلٌّ في الليل والنهار، ليتك _ أيها الظل _ تمسكني الآن، فتخلصني من خوف أنهكني طيلة عشرة شهور، ذلك الخوف يحاصرني أينما ذهبت. لا تحاول التنكر فأنا أعرفكم واحداً واحداً..
أشمّ رائحتكم الكريهة، أميزها، أرى عندما أراكم مشنقة متدلية،وزنزانة صغيرة يقال عنها إنها مكان النوم والتعذيب والتغوط أيضاً… تُرى هل كُتب علي بعد هذا العمر الطويل الذي قضيته مواطناً صالحاً لا يطلب من الله غير الستر، أن أقضي بقية عمري في مرحاض؟!!
أيها الرجل الذي تتبعني، لماذا لا تبتعد وتختفي إلى الأبد؟ طيّب لماذا لا تقترب وتضع القيد حول يدي؟؟! لو فعلتَ أيّاً من الأمرين لكان أهون علي من أن أبقى مطارداً إلى ما شاء المولى العزيز القدير.
ها أنا ذا أُبطئ ..فيبطئ، أغذ الخطى فيعدو خلفي كحصان (أصيل).. ها إنه يسخر من مشيتي المتعثرة..أحس بسمته الخبيثة تخترق عمودي الفقري وتنزل مثل ماء بارداً إلى أسفل.
سأجرّب أن أقف عند بائع الفلافل في آخر الشارع لعلّي أتخلّص من ظلي اللعين.
قد أتفق معكَ أنني لا أحب الفلافل، ولكن الأمر لا يعدو كونه وجبة تكتيكية! لقد لعنت ضعفي يوم بكيت، هل كان من اللائق أن أبكي أمام الناس ذلك اليوم؟
ما شأني أنا بالعمال السبعة الفلسطينيين الذين قال عنهم تلفزيون (قهوة حمود) إنهم قتلوا على يد أحد المستوطنين في "عيون قارة". طيّب يا أخي لنفترض أن نخوة وطنية قد اعترتني، فلماذا لا أبكي في البيت، أمام زوجتي…
صحيح أنها ستعدّ بكائي ضعفاً أمام سطوتها واستغفاراً منها على نظراتي المرتابة نحوها إذا ما أتت متأخرة في ليلة ما.ولكن لا بأس فذلك أهون علي من حياة المرحاض…على الأقل زوجتي ستسمح لي أن أبول ساعة أشاء، وحيثما أشاء. لكنني بكيت وانتهى الأمر . لاشك أن أحد زبائن قهوة حمود رآني وقدّر أن حزني قد يتحول إلى غضب، وأن الدموع التي ذرفتها ستؤثر على الأمن المائي العربي!!…
ولكن ألا تكتفي عشرة شهور من الخوف. لقد صرت أنفق راتبي عند بائعي الفلافل تخلصاً من الظلال التي تحيط بي كشرنقة خبيثة.
الحمد لله فالزبائن كثيرون….ربما أحتاج خمس عشرة دقيقة حتى أحصل على( سندويشتي)، لا بأس.. أنا على استعداد لأن أنتظر ساعتين فذلك على قلبي أحلى من العسل.
حين يجتازني ظلّي، أحس بنظراته تثقبني... تحولني إلى غربال… ربما يذهب الآن بعيداً.. يا إلهي.. ماذا لو ذهب بعيداً، وتركني لهمومي الصغيرة.. لطفلي المريض.. لزوجتي التي لا أعرف سبباً لخروجها المستمر من البيت.
ولكنه لن يذهب، سينتظرني في إحدى الحارات الضيقة، حيث يمتد الظلام والطرق الترابي.. هناك… حيث لا عين ولا أذن، سيمسك بي ويقودني إلى المرحاض، سأطلب منه أن يمهلني يومين فقط، كي أودّع زوجتي وطفلي وأصحابي سأقول لهم أنني سأسافر..لن أخبرهم،حفاظاً على سمعة الوطن، أنني سأتركهم لأقيم في مرحاض لا يصلح لسكنى الكلاب الضالة.
حين انتهيت إلى الطريق الترابي خطر لي أن أبول، ربما هي المرة الأخيرة التي سأبول فيها على مزاجي. سأنشد لهم في السجن كثيراً من الأناشيد الوطنية التي تؤكد حقيقة انتمائي إلى المواطنين الصالحين.
علي أن أخدعهم، فالحرب خدعة، خاصة أنها حرب تقوم على أرضهم وبين جمهورهم!! عند زاوية خربة كان صوت ارتطام ذرات البول بالتراب يؤنسني، يشعرني بانتعاش مثير.
انتعاشي، مع انقطاع ذرات البول، تحول إلى هلع.. قدماي تسيران نحو البيت دون إرادة مني، تجرجران هذا الجسد الهارب إلى جدران يتمنى أن يعانقها، أن يودعها خوفاً ينزل من رأسه إلى قدميه… عيناي تخافان العتمة، عتمة الحارات الضيقة تزيد نفسي ظلمة وكمداً، ربما يكون طعامهم مبهراً.. سأقول لصديقي السجان إن البهارات بأنواعها الجيدة والرديئة لا تناسب معدتي، ثم إن الزنزانة التي لا يدخلها الضوء لا تناسب عيني اللتين سرعان ما تدمعان..
تدمعان!!..آه.. لعنة الله على الدموع..أليست هناك طريقة للتكفير عن حزني الذي اعتراني ذلك اليوم؟ إنني على استعداد أن أحضر لهم شهوداً على أنني لم أذرف دمعة واحدة يوم قال تلفزيون حمود إن واحداً وعشرين فلسطينياً قُتلوا في القدس، بينما كانوا يدافعون عن صخرتها المشرفة… فالعاقل يستفيد من تجاربه، وتجربتي المريرة علمتني أن ثمة علاقة بين العين والأنف غير تلك التي يتشدق بها علماء البيولوجية، وهي أن العين حين تبكي،يبدأ الأنف بشم رائحة المراحيض.
تعيدني إلى الشارع والليل سيارة أنيقة طويلة، تربض عند الزاوية، بانتظار فريستها، بانتظاري.. لحظات قاسية مرت وأنا أجتازها، فقد كانت عيونها المطفأة التي تشي بالخطر تثقب ركبتي فلا أستطيع المسير.
حين تجاوزتها ركضت، رغم المسامير اللعينة التي تشدني إلى الأرض ركضت..أركضني خوفي، أحسست أن الناس في بيوتهم، الدكاكين المغلقة، البسطات المنتشرة هنا وهناك، الأرصفة، الشوارع،كلّها تسخر من ركضي ومن لهاثي، ولكن هؤلاء مزكومون أغبياء لا يشمون الرائحة، ولا يعرفون الحقيقة، حقيقة أنني مطارد، محاصر بالخوف من قبل هؤلاء الذين لا يراهم أحد سواي.
دقيقة كاملة مرت،وأنا أعالج القفل .ويدي المرتجفة تحاول أن تدير المفتاح.. أدخل البيت.. أهرع إلى فراشي، أتدثر بخمس بطانيات من تلك التي توزعها علينا وكالة الغوث، علّها تحميني من البرد والخوف، وتمنع هؤلاء من الوصول إلي عبر مسامات جلدي.
* * *
زوجته التي كانت على صلة بأحد المطلعين على خفايا الأمور أكدت أن أحداً لم يكن يتبع زوجها.وقالت إنه كان يعني من مرض نفسي بدأ يتفشى مؤخراً بين الناس ويودي بهم إلى ما يشبه الجنون… لذلك قررت أن تطلقه،وأن تتركه لليل،والخوف…..وبائعي الفلافل…
31/5/1993