لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: ليلة رأس القرن

ليلة رأس القرن


د. يوسف حطيني


كان يغمره منذ الصباح إحساس طاغ بأنه سيواجه ليلة مختلفة، أفاق ـ على غير عادته ـ نشيطاً، لكز زوجته القابعة إلى جواره طالباً منها أن تعد له فنجان قهوة سكر وسط، ريثما يحلق ذقنه، فالنهار مليء بالأشغال التي سيقبل عليها دون ملل..
"ليت المدير وافق على إعطائي إجازة، حتى أتمكن من التحضير لليلة القادمة".
قال لها، بينما كانت تطرد النعاس عن جفونها المتعبة.
"ولماذا لم يوافق؟" ردت عليه متثائبة "أنتَ لم تأخذ إجازة منذ سنوات".
على غير عادته أيضاً يفتح الخزانة، ثم يخرج ربطة عنقه الزرقاء، ينظر إلى نفسه في المرآة، يصفر لحناً ما، بينما يشدها إلى عنقه:
"أتعرفين؟ يبدو لي أن المدير على حق، فالجميع كانوا يريدون إجازة، ولأنه رجل عادل، فهو لم يمنح أحداً ولو ساعة واحدة".
يُطمئن نفسه بقبلة يلصقها على جبين زوجته، كيفما اتفق، ثم يغمز بعينيه:
"لا تخافي، سوف أتدبر أمري مع أبي وهيب، فهو يغض البصر ويحفظ اللسان".
يلمع حذاءه الرخيص، يعود إلى لحنه، ثم يصفع الباب، تاركاً خلفه امرأة تمني نفسها بفراش دافئ وليلة حافلة بالأشياء الخارقة للنظام الرسمي.
* * *
حين خرج أبو رسمي من باب بيته تحاشى أن ينظر نحو بقالية جاره أبي مرزوق، الذي رزقه الله بغير حساب، ولكن الأخير كان صياداً ماهراً:
ـ صباح الخير أبو رسمي.. 794 ليرة بالتمام والكمال.. برِّئ ذمتك يا رجل.
ـ طوّل بالك حتى نقبض الراتب.
ـ بس اليوم آخر يوم في السنة، وقد سمعت أن جميع الموظفين قبضوا رواتبهم منذ أيام.
ـ خلص.. سأمرّ عليك عندما أعود.
لم يصدق صاحبنا أنه نجا من قبضة أبي مرزوق، حتى جاوز الشارع وراح يفكر بنزق في الأشياء التي من المحتمل أن تنغِّص يومه المميز: عليه، مثل كل الفقراء، أن يستدين ثمن الخبز، وأن ينسى مشكلتي الماء والكهرباء، وأن يهرب من أبي تحسين الذي يلاحقه على إيجار البيت من ثلاثة أشهر، إنه يعيش مشاكل الفقراء، ويتفق معهم في كل شيء تقريباً، ولكنه اليوم يختلف عنهم، إذ ما زال يحتفظ بخمسمائة ليرة، على الرغم من مرور ستة أيام كاملة على استلام راتبه، يضع يده في جيبه، يشد على الورقة الغالية التي ستجعل منه هذه الليلة إنساناً آخر:
ستكفي ثمناً للبزر والكاتو والتبولة وبعض الفواكه، "يجب أن تكون ليلة مميزة" فكّر أبو رسمي، "إنه من غير اللائق أن أستقبل عام 2000 استقبالاً عادياً، لأول مرة سأخصص هذا المبلغ للاحتفال، إنه مبلغ يحلّ نصف مشكلة أبي مرزوق"، يطرد الفكرة سريعاً، "ولكنه عام 2000 وليس من المناسب أن أخسر لذة الانتقال إلى الألفية الجديدة من أجل 500 ليرة، ومن أجل أشخاص ساذجين، لا يعرفون معنى العام 2000، وتطور الاتصالات وتغلغل الأنترنت، والنظام العالمي الجديد..
جلس إلى مكتبه، طلب القهوة بالهاتف، ذكره المستخدم أنّ "الدنيا رمضان"، فأصرّ قائلاً: "لن أنتظر ألف سنة أخرى لأشرب فنجان قهوة في مناسبة كهذه"، ولكنه عدل عن رأيه حين قذفه المستخدم بإلحاحه على دفع ثمنها، وثمن عشرات الفناجين التي يشربها، وإذا كان أبو رسمي ينسى فإن الدفتر لا ينسى، وقد جاوز الحساب ثلاثمائة ليرة. يغلق الهاتف، ماداً يده إلى جيبه مطمئناً إلى وجود نقوده فيها.
شرح لزملائه بتفصيل استغرق ساعتين رؤيته للعام الجديد، والألفية الجديدة التي ستبدأ بعد منتصف الليلة التالية، وستحمل الخير والبركة والتغيير الذي ملوا انتظاره منذ ألف عام. طمأن زميله الفلسطيني أن العام 2000 لن ينساه من خيره العميم، اجتهد في أن يحمل التفاؤل إلى نفوس زملائه، فشاطره بعضهم حماسته، في حين بقي الآخرون غارقين بنصيبهم من هموم الدنيا.
عقرب الساعة يقذف الوقت نحو منتصف النهار، واثنتا عشرة ساعة تفصله عن الألفية الجديدة، وهؤلاء الذين لا يهتمون بحديثه يثيرون غرابته، لا يبدو عليهم القلق والتوتر، أما هو فقد كان كمن يجلس فوق بيضة، تدفعه المغامرة إلى أبي وهيب مراقب الدوام:
ـ صدقني إنني مضطر يا أبا وهيب.. زوجتي مريضة.
ـ بس يا أبا رسمي خروجك من الدائرة في هذا الوقت مسؤولية..
بما يشبه الحنان يضع أبو رسمي يده على كتف أبي وهيب ويطمئنه بأنه مستعد لدفع ثمن سكوته:
ـ سأعطيك خمسين ليرة.
ـ مائة ليرة لا تنقص ليرة واحدة.
ـ يا سيدي موافق.. بس الدفع بكرة.
وافق مراقب الدوام ممتعضاَ، بينما انسل أبو رسمي خارج الدائرة كقط مدرّب رشيق.
* * *
من أين يبدأ؟
ماذا تحتاج هذه الليلة؟
سيكتفي بالكاتو والتبولة والبزر، علّه يستطيع أن يشتري بما يتبقى شيئاً ما لزوجته، يضفي على الليلة القادمة مزيداً من النشوة.
كانت قوالب الكاتو من كل نوع تصطف جميلة منسقة، تغطيها الكريما والشوكولاته، وتتخذ شكلاً احتفالياً أدخل البهجة والخوف إلى قلبه.. صرف نظره عن القوالب الكبيرة حتى لا يخسر معظم النقود التي يحملها، واتجه إلى البائع العجول الذي يخاطب جميع الزبائن دفعة واحدة، ولكن هذا لم يعره التفاتاً، غير أن صاحبنا استطاع أخيراً أن يشير إلى أحد القوالب الصغيرة سائلاً عن ثمنها:
ـ 400 ليرة يا بلاش.
ـ 400 ليرة؟
ـ كل عام وأنت بخير.
ـ غال جدّاً.
ـ كم هي نقودك؟
ـ حوالي 150.
ـ إذن خذ قالب سادة بـ 200.
ولم يكن الحال عند بائع الخُضَر أفضل بكثير، إذ أخذ خمسين ليرة ثمن كيلو غرام واحد من البندورة، وخمسة عشر ليرة ثمناً لضمة البقدونس، ومثلها لليمونة واحدة، وانطلق ليشتري بما تبقى ما تيسر من البزر والفستق، ولم يستطع منظر ذلك المتسول الذي أنجبته الطريق فجأة أن ينال من فرحته ومن يقينه أن شيئاً ما سيتغير منذ هذه الليلة، وأن معجزة ما ستهبط على الفقراء والمتسولين والمبعدين عن أوطانهم، فتعيد البسمة إلى الشفاه والدفء إلى القلوب.
* * *
على الرغم من أنه اضطر أن يسير بقية الطريق على قدميه، فقد كان يشعر بالزهو لأنه استطاع أن يكون رجلاً، وأن ينتمي بجدارة إلى روح هذا العصر، زوجته ستقدر له الاحتفال بهذه المناسبة الغالية، وستلبس أجمل أثوابها وأكثرها إثارة، فهي أيضاَ تدرك ما تعنيه هذه الليلة المختلفة عن كلّ الليالي التي سبقتها.
عاتَبَتْهُ لأنه لم يحضر طعاماً جاهزاً، فشعر بالامتعاض، ولكنه سرعان ما طرد امتعاضه، حتى لا يفسد المناسبة، وقد اضطر أن يطرد امتعاضه عدة مرات هذه الليلة حتى استطاع أن يجعلها هنيئة تماماً.. لقد شهد مع زوجته، وهما في الفراش، ولادة العام 2000، وأثبت لها بما لا يقبل الشك أنه رجل قوي، قادر على الانتماء للحضارة، لأنه يحمل في روحه إرادة التغيير التي يتطلبها الزمن الجديد.. لذلك طلب منها في صباح اليوم التالي فنجان قهوة حلوة أفرغها في جوفه دفعة واحدة، وقبّل الخد الأسيل قبلة لذيذة، وانطلق إلى أصحابه بروح جديدة متفائلة يملؤها النشاط والغبطة.
* * *
خطا خطوته الأولى خارج المنزل، وكصياد ماهر أمسك أبو مرزوق برقبته قائلاً:
ـ كل عام وأنت بخير أستاذ أبا رسمي، 794 ليرة بالتمام والكمال.. برِّئ ذمتك يا رجل.


31/12/1999